تاريخ النشر 5 أكتوبر 2020     بواسطة الدكتور محمد بلغيث البارقي     المشاهدات 1

(بل: غيث!!)

في مرحلة ما من مراحل النمو الوطني، والتنمية الحضارية.. كان السؤال التقليدي الذي يمكن توجيهه بلا تحفظ إلى أي طفل سعودي: (وش ودّك تصير يا شاطر؟ دكتور والا طيّار؟!!).. كان المجتمع ينظر إلى هاتين المهنتين فيما يبدو.. كما لو أنهما كانتا فوق مستوى مطامح الناس.. أو أن ثمة جينات خاصة للعاملين في مثل هذ
ه المهن.. ليست ضمن فيزيولوجيا السعوديين.. لذلك هم يحرّضون صغارهم قسراً عبر هذه الصيغة المفخخة.. التي تبدو حرة بحجم اتساع المستقبل وأحلامه.. رغم أنها تخنقهم عمداً ما بين خانة الطبيب والطيار!!.

وفي مرحلة لاحقة.. تحققت المعجزة.. بفضل الله ثم بفضل ذلك السؤال التحريضي.. الذي تواطأ عليه المجتمع -جهلةً ومتعلمين - بقصد وبدون قصد.. مما دفع الكثيرين.. ممن لا يفضلون التصدي لمهنة الطب.. أو قيادة الطائرات لاختيار هذه الوظائف.. فقط لمجرد الظفر بحالة أو هالة الزهو الاجتماعي شديد الإغراء، الذي كان يصاحبهما! في تلك المرحلة.. لم يكن هنالك ما يكفي من رصيد الثقة ما بين المجتمع وأبنائه الذين انخرطوا في هذه المهن رغبة أو إذعاناً لرغبة المجتمع.. أتذكر أننا حينما كنا نركب الطائرة، ويعلن كبير ملاحيها بأنه ونيابة عن قائد الطائرة الكابتن: (أحمد أو خالد أو نبيل) نضع أيدينا على قلوبنا.. قائلين بصوت واحد (ياالله السلامة).. وحينما تصلنا تحيات قائد الطائرة الكابتن: (مايكل أو جورج أو انطوان أو دايفيد) ما نلبث أن نسمع من هنا أو هناك عبارة: (حط راسك بالخِرجء!!).. هذا هو الشعور السائد آنذاك، ونفس القضية حينما تفاجئنا احدى العيادات على غير موعد بطبيب يضع سماعته الطبية تحت غطاء رأسه!!.

انصرفتء هذه المرحلة.. ولم يعد لذلك السؤال (البايخ) أي معنى.. بل صار مادةً للتندر في المسلسلات التي تتناول تلك المرحلة كما لو كانت عمقاً تأريخياً سحيقاً.. بعد ان اكتظت المستشفيات بالاستشاريين السعوديين الذين ذاع صيتهم.. بتفوقهم على أقرانهم وفي أدق التخصصات الطبية.. وبعد ان امتلأت قمرات الطائرات بمختلف مهامها (مدنياً وعسكرياً) بالعديد من الأسماء الوطنية من نجد والحجاز من الشرق والشمال والجنوب.. حتى لم يعد أي اسم موغل في البداوة.. مثيراً للاهتمام وهو يحضر في أي موقع كهذا.. إلا بقدر ما يحققه من التميز!!.

لا أعرف لماذا استعدت هذه المشاهد من معارك التنمية.. وأنا أخضع للعلاج على يد الدكتور: محمد بلغيث البارقي استشاري أمراض القلب والشرايين في مدينة الملك عبدالعزيز الطبية بالحرس الوطني.. ربما لأنني كنت استقرئ سيرة هذا الشاب الطبية.. ما بين مسقط رأسه في محايل عسير.. تلك المدينة الوادعة في جبال الجنوب، والجامعات الكندية، التي علمته الطب، ومستشفى كليفلاند الشهير.. الذي احتضن أهم بحوثه العلمية.. وكيف استطاع ذلك الشاب النحيل.. القادم من بداوات الجنوب وعاداته وتقاليده الرائعة.. أن يبني مجده الطبي.. بكل هذا القدر من الحضور الباهر.. وبنفس قيم وطقوس ابن القبيلة.. الذي يصر على أن يولم لضيفه.. ويحلف بأغلظ الأيمان أن (قل: تم)!!.

لم يكن (د. بلغيث) يعرف حينها علاقتي بالصحافة.. لأنني كنت أدخل المستشفى تحت اسم وثائقي مموّه.. لاعلاقة له البتة باسم الشهرة.. لذلك كان الشاب يمارس علاقته معي مثل غيري.. وبمثل ما كان يفتح فيه بيته (للضيفان) في بلدته الجنوبية!!.. استغربت كيف يجد هذا الاستشاري من الوقت ما يكفي لمهاتفة مرضاه من حين لآخر مطئناً عليهم.. لكنني ما لبثت ان عرفت السبب. وهو أنه لم يكن أبداً مجرد استشاري لأمراض القلب والشرايين.. وإنما هو قبل هذا استشاري في تقاليد القلوب البدوية.. وهذا هو أحد أهم أسرار خلطة النجاح.. لذلك لم تستطع كل المهارات الطبية الفائقة التي أخذها بتفوق من أهم الجامعات والمستشفيات الوطنية والأجنبية.. أن تأخذ منه قيمة المواطن.. الذي لم يوهمه التفوق في تخصصه ولو للحظة.. ووضع الكثيرين لقلوبهم بين يديه.. أنه استطاع أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً!!.. حقاً إنه الأنموذج الذي يجب أن يعيد تجلية زهو ذلك السؤال مجدداً.. انه ليس (بلغيث) (بل: غيث)!!.


أخبار مرتبطة