تاريخ النشر 17 يونيو 2021     بواسطة البروفيسور حسن علي الزهراني     المشاهدات 1

د. حسن الزهراني: كان صومنا 20 ساعة

وهذه قصة “إذا عشّر بشّر”. أول يوم في رمضان: وأنا أدرس في الابتدائية الرحمانية بمكة المكرمة حرسها الله، عزمت على صيام أول يوم في رمضان كاملاً .. وكنت حول العاشرة من عمري -لا أتذكر-، المهم أن الجو كان حارًا والدراسة طويلة لطفل مثلي، ولقرب المدرسة -في القشاشية- من دكان الوالد -في شارع الصفا-،
كانت التوجيهات بالعودة إلى الدكان لأخذ قسط من الراحة في المخزن السفلي، الذي كان رطباً نوعاً ما، تمهيداً للذهاب لصلاة العصر في الحرم الشريف، ومن ثم قراءة القرآن، وانتظار الإفطار.

 وبعد المغرب العودة للحرم لأداء العشاء ونصف صلاة التراويح .. ومن ثم العودة للمنزل للنوم، هذا هو البرنامج اليومي في رمضان، الذي صامه جيلي دون مكيفات، ودون وسائل ترفيه.

أتذكر أنني جلست في أول يوم من رمضان  بعد صلاة العصر في الرواق القديم من الجهة الشرقية الملاصقة للمسعى، أقرأ القرآن تارة، وأختلس النظر الى الزمازمة الذين كانوا يملؤون الدوارق المستطيلة بماء زمزم “فريش” من البئر الواقع على مرمى نظري.
كنت أتخيل بأنني أشرب زمزم من تلك الدوارق الملقاة في الحصاوي أمامي -كانت ساحة الحرم مفروشة بحصى صغير وتتخلل الحصاوي ممرات تقودك الى صحن المطاف حول الكعبة-، لعلي بتخيلاتي تلك أطفئ عطشي للماء.

لم تنفع الحيلة فذهبت لبئر زمزم لرطوبة الجو حولها، وليس برودته، فلمحني الرجل الذي كان يجلب الماء ثم ألقى بكمية من الماء عليّ مداعباً، ولعله كان يقصد تلطيف حرارة جسمي.
عدت أدراجي إلى الدكان، فمر رجل ولمح وجهي متعباً، فقال لأبي رحمه الله وهو مشفق علي: “حرام عليك… خلي ولدك يفطر فشكله صغير و تعبان”.
رد الوالد: قل له …فلم يسمع كلامي، أنه يكفيه أن يصوم نصف يوم.

جاء وقت الإفطار -فكوك الريق- فذهبنا للحرم وعندما  سجدت وقمت للركعة الثانية شعرت بدوار شديد، فجلست حتى لا أسقط، ثم قمت خوفاً من أن يلاحظ أبي ذلك فيمنعني من الصيام.
استمريت في الصيام، ولما جاء العاشر من رمضان، سمعت أبي بعد المغرب على مائدة العشاء يقول لنا بسعادة وتحفيز لنا: ” إذا عشر بشر”

لم أفهم .. فشرحها لنا بأن معنى ذلك أن الثلث الأول هو الصعب في الصيام، وطالما أنقضى على خير، فأبشروا باقتراب عيد الفطر.
كبرت وفهمت بأن في هذه المقولة تحفيز وشحذ همم، يغني عن غثاء ابتلينا به في أعقاب الزمن، من بعض دورات تحفيز الذات، التي تخبرنا مخرجاتها بأنها غالباً لا تسمن ولا تغني من جوع.
كان كل ما حولنا يحفزنا فإمام الحرم المكي الشيخ الخليفي يرحمه الله يصلي دون مكيف أمامه، ويحمل في يده مروحة من سعف النخل، يروّح بها على وجهه بين التسليمات، فإذا أشتد الحر كوم -مشلحه أو عباءته أو بشته- أمامه ليتخفف من اللبس.

وكذلك كان الشيخ عبدالله خياط يخطب فوق المنبر العثماني العالي الدرجات، ثم ينزل درجة درجة متكئا على عصاه، ويصلي الجمعة تحت مظلة صغيرة، دون مكيف او مروحة، وسموم مكة يلفح وجهه وهو صائم.
المثل المحفز: “إذا عّشر بشّر” يدل على أن الحياة مراحل وأن علينا أن نقطعها كذلك، وكما قيل: “يذهب ألم الطاعة وتبقى لذتها وأجرها، وتذهب لذة المعصية ويبقى ألمها”.
ثم فتش عن القدوات، فالقدوة هي المحفز للشباب وصغار السن.
فرحم الله قدواتنا رحمة الأبرار.

ذكريات رمضانية…
أحرص على صوم رمضان بين مكة وجدة إلا في ذلك العام قبل ٣٦ سنة تقريبًا، الذي صمت فيه أياماً في إدنبرة ببريطانيا، حيث الصوم ٢٠ ساعة، كنت نازلاً في نزل (BB ) أي سرير وإفطار فقط) يملكه ويسكن فيه أخ مغربي، فكان أول يوم من رمضان

طرق صاحب النزل واسمه “بوشعيب” الباب طرقاً عنيفاً على غير عادته، وطلب أن نصلي العصر جماعة وكانت الساعة ٦،٣٠ عصراً (وبقي للإفطار ٤ ساعات تقريبا) كنا مجهدين وبعد أن سلمنا وانصرفنا، التفت إلي بوشعيب وسأل بعفوية وعصبية: كم يوم باقي للعيد؟! وكأني أنا السبب في معاناته، ثم ضحكنا.

ثم عرض علي أن تقوم زوجته بإرسال بعض الأطباق كالحريرة المغربية للإفطار، تمنعت -مع ان وجهي كان يبدي ما في نفسي- ووضعت شروطاً قبل بها، ثم جاء وقت الإفطار الذي لم أذق مثله.
للصوم هناك مشقة ولكنها تورث حلاوة إيمان في القلب، يعرفها كل من صام هناك، ومع ذلك فلا أعدل برمضان في ديارنا أحدا.

ذكرى أخرى لا أنساها قبل نصف قرن
جاء العاشر من رمضان فتوجهنا كعادتنا كل يوم من رمضان لإداء صلاة المغرب والافطار في الحرم المكي، ثم عدنا لتناول وجبة العشاء في محل والدي رحمه الله المجاور للحرم، وأثناء استعدادنا لصلاة العشاء فوجئنا بأناس من المارة يكبرون فرحا بصوت عال.

قال أحدهم وهو رجل يمني صالح -عم يوسف-: لقد هجمت مصر وسوريا على اسرائيل وعبر المصريون قناة السويس ودخلت سوريا الجولان، بالنسبة لنا كان الرجل مراسلاً موثوقاً لكل أهل السوق في زمن لا يوجد فيه جوالات أو نت أو واتس أب أو قنوات أو …،

كان بمثابة الشريط الأحمر (عاجل) الذي يظهر على شاشات الفضائيات، انهمرت دموع الناس فرحاً وذهبوا لأداء صلاة العشاء مع الشيخ السبيل رحمه الله ثم صلاة التروايح، وهم متلهفون لسماع المزيد من الأخبار، عدت من الصلاة وذهبت من فوري الى محل أجهزة ناشيونال في شارع الغزة لأشتري جهاز راديو ترانزستور لمتابعة الأخبار، و لم يفارقني الراديو بعدها ليلاً او نهاراً.

بعد بدء الحرب بأيام قام الملك فيصل عليه رحمه الله بخطوة تاريخية فقطع البترول عن كل الدول التي أمدت اسرائيل بجسر جوي من السلاح -ثم تبعته بقية الدول العربية المنتجة للنفط-، وعلى الرغم من أن ذلك القرار كان مصيرياً لأنه يلحق الضرر بدول النفط ومواطنيها إلا أن الجميع كان مؤيداً له فخوراً بالملك المفدى، وبالمشاركة مع دول المواجهة في حرب العاشر من رمضان (السادس من أكتوبر) المجيدة، لقد كانت تلك الحرب نموذجا لتلاحم الشعوب مع قادتها، و لوحدة الدول العربية وللتعاون بينها لما كانت هناك أمة عربية واحدة، وكانت أيام من الفرح في رمضان بانتصار طال انتظاره.

أدركنا في العصر الذهبي للحرم المكي رمضان بصلواته وتراويحه وتهجده محمولين على أكتاف الشيخين الخليفي والسبيل يرحمهما الله، وفي سنة غاب أحدهما فحل مكانه الشيخ العلامة العثيمين رحمه الله فحاص الناس حوصة فقد تعودوا على الثنائي آنف الذكر.

الشيخ الخليفي كان هو نجم دعاء القنوت دون منازع فقد كان الاكبر سنًا، ويدعو بصوت خاشع وبدعاء جامع، وأزعم بأنه أول من حبب الناس في دعاء ختم القرآن، حتى أنه أكتفى بعد كبر سنه بدعاء الوتر والتختيم، فيفرح الناس بحضوره.
كان لأداء التراويح في المسجد الحرام لذة وطعما لا يمكن وصفه .. ولذلك صعب علي شخصيًا تقبل اداءها في غيره فضلًا عن البيت، فرحم الله مشايخنا وموتانا وموتى المسلمين.

رمضان في عام الكورونا…
كان لرصيدي السابق في صيام رمضانات الطفولة والفتوة والشباب، وصلوات التراويح والتهجد في بلد الله الحرام، والطواف بالبيت كل ليلة في رمضان، عظيم الاثر على جبر خاطري في رمضان “عام الكورونا” وما سبقه من سنين .. فقد تعودت على الصلاة والصيام بجدة بعدما ازدحم الحرم وتغيرت أحوالي.

فلما جاءت كورونا واضطررت لأداء التراويح في منزلي مع الأهل، لم أجد هناك مزيد فرق ُيذكر، فكما قيل “وهل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها!”، فخففت عني الذكريات مرارة الواقع.
ولأنني من القوم الذين لا يعزمون ولا ُيعزمون في رمضان فقد كفتني الكورونا، وما رافقها من احترازات مؤونة الاعتذار، بل إنها منحتني مزيدًا من الاستفادة من الوقت، فعجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير.
اللهم أعد علينا رمضان برضوانك، وقد رفعت عنا كل وباء وبلاء آمين.


أخبار مرتبطة