تاريخ النشر 21 أكتوبر 2021     بواسطة الدكتورة امتثال محمد دوم     المشاهدات 1

هل للذكاء الصناعي حالة نفسية ؟

منذ قدم التاريخ يُعتبر الذكاء علامة فارقة وأحد الفوارق الشخصية بين البشر, ولقد ميز الله الإنسان بالذكاء عن غيره من البشر باعتباره خليفته في الأرض, وللذكاء دور في تطور العلوم, وبفعل ذكاء الإنسان ابتكر الاختراعات, حيث فكر واخترع النار وهو الاختراع البشري الأهم في التاريخ البشري القديم, تلاه اخترا
ع العجلات والآلات, وفي القرن العشرين تم اختراع النقود والتي تطورت بشكل غير مسبوق مع تطور الرقمية وسيطرة الحاسب الآلي ونظم المعلومات على نسبة لا بأس بها من العمليات الاقتصادية وغير الاقتصادية.

لقد شكلت ماهية الذكاء محطة اهتمام واسعة للفلاسفة والعلماء منذ أكثر من ألفي عام, حيث حاولوا فهم كيف تتم رؤية الأشياء, وكيف يتم التعلم والتذكر والتعليل, ومع اكتشاف و استخدام الكمبيوتر في خمسينات القرن العشرين تحولت إسهامات الفلاسفة والعلماء إلى أنظمة تجريبية واقعية, وعلى الرغم من أن علماء النفس لم يتمكنوا من تحديد تعريف شمولي لمفهوم الذكاء الطبيعي أو البشري, إلا أن هناك اتجاه عام لتعريف الذكاء الاصطناعي, حيث يقوم على فكرة استخدام الحاسب بمحاكاة عمليات الذكاء التي تتم داخل العقل البشري, بحيث تصبح لدى الحاسب المقدرة على حل المشكلات واتخاذ القرار بأسلوب منطقي وبنفس طريقة تفكير العقل البشري, والأمر الذي يعد مدهشاً هو إكساب الآلة والإنسان الآلي بعض الأحاسيس والمشاعر البشرية , وهذا الأمر يؤدي بنتائج سلبية تتمثل في إحلال الآلة محل الإنسان, وهذا يتنافى والقوانين الطبيعية.

لقد شكل التطور المذهل وغير المسبوق في الذكاء الاصطناعي علامة فارقة في تطور الاتصالات وتقنية المعلومات , أو ما يُعرف بالانقلاب المعلوماتي , والتي نجم عنها إحداث تطورات في الإنتاج ونقل المعارف والتي تعتبر عنصر إنتاجي هام لا يقل مكانة عن رأس المال أو الأرض أو العمل , لقد أصبح التوجه العام للخبراء والعلماء ومن ضمنهم علماء النفس هي اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي كآلية لحفظ خبراتهم وتجاربهم طيلة حياتهم العملية والعلمية , فالذكاء الاصطناعي يُعد مجالاً عالمياً يمكن أن يكون صالح لجميع العلوم والمهن, ومنذ قدم التاريخ لاحظ العلماء أن نجاح الإنسان وسعادته لا يتوقفان على ذكائه العقلي فقط, وإنما يحتاج بالتزامن مع الذكاء العقلي إلى صفات ومهارات في أحيان كثيرة لا تتوافر للأذكياء وهذا الأمر يُطلق عليه الذكاء العاطفي, ورغم غزارة الأبحاث والاسهامات الفكرية لعلماء النفس إلا أن الوصول للذكاء كعلم مستقل بذاته لا زال يحتاج لتضافر الجهود والاستمرار في البحث حول الظواهر المتعلقة بالذكاء الاصطناعي, وهناك عدة متغيرات للذكاء الاصطناعي وتتمثل في: ( سلوك المستخدم, البيئة, قدرة النظام, عملية التدريب والتطوير على النظام, نوع البرنامج الذكي المستخدم, توفر الخبراء, المعرفة الجاهزة, نوع لغة البرمجة المستخدمة), ولقد شهد العالم تطور ملموس لتطبيقات الذكاء الاصطناعي, ومن التطبيقات الأكثر شيوعاً هي: (تطبيقات الألعاب, تطبيقات مكينة وإثبات النظريات, تطبيقات الأنظمة الخبيرة, تطبيقات التعرف على الصوت, تطبيقات الرؤية عن طريقة الآلة, صياغة أداء الإنسان, التخطيط والأتمتة, لغات وبيئات للذكاء الاصطناعي, تعليم الآلات, الحوسبة الظاهرة والمعالجة الموزعة المتوازية, التصنيف الإرشادي, الفلسفة والذكاء الاصطناعي .

يُعتبر الذكاء الاصطناعي أعلى مراحل الذكاء والانجاز البشري المثير للدهشة والإعجاز, إذ يُعرف الذكاء الاصطناعي بالقدرة التي يمتلكها أي جهاز, أو آلة , أو برنامج , أو نظام حاسوبي تجعله يسلك سلوكاً يتشابه وبعض السلوك الذكي لدى البشر, ويُعد آلان تورينغ (1912-1954) الأب الروحي للحاسوب الرقمي, وآلات الذكاء الاصطناعي, حيث اخترع الماكينة التي عرُفت باسمه Machine Turing , وتمتاز هذه الماكينة بقدرتها على إجراء أي نوع من العمليات الرياضية, وقد استند تورينغ إلى توسيع دائرة بحوثه إلى ميدان الذكاء الاصطناعي, حيث يرتكز الذكاء الاصطناعي على خوارزميات رياضية يوظفها المعلوماتيون في مجموعة من دوائر سليكونية, وفي المستقبل القريب سيتم التركيز على الخلية الحية بوصفها مورداً هائلاً لاختزان المعلومات, وفي تحول سيزيد التعقيدات في العلاقة بين الإنسان والآلة .

لقد ساهم تطور لغات البرمجة والإعلام الآلي بشكل ملموس في تعزيز وتطوير الذكاء الاصطناعي ليصبح علماً مستقلاً بذاته, ويرتبط بعلاقات مع العديد من العلوم كالبرمجة والمنطق والرياضيات وعلم النفس والفلسفة, وفي مجال علم النفس فإن تقنية الذكاء الاصطناعي ترتكز على تطوير شبكات عصبية صناعية تُحاكي في طريقة عملها أسلوب الدماغ البشري, ويعني ذلك ضمنياً استخدام الآلة كبديل للإنسان وممارسة عدة أعمال كالقدرة على التجريب والتعلم والتطوير والعمل بمعزل عن تدخل الإنسان, ولم يتوقف العلماء في مجال الذكاء الاصطناعي عند حد معين , بل استمروا في البحوث وتطويرها ووضع خطط مستقبلية واستراتيجية تتمثل في إمكانية تصنيع عقل يتميز بمستوى ذكاء خارق يفوق القدرة البشرية بأضعاف مضاعفة, إضافة إلى العمل على خلق الوعي الاصطناعي أو الشعور, ورغم الأهمية التي يكتسبها الذكاء الاصطناعي إلا أن العلماء يحذرون من سيطرة الآلات واضمحلال دور الإنسان, حيث يوجد عدد من المساوئ لاستحواذ الآلة و الاعتماد على الذكاء الاصطناعي تتمثل في إمكانية نهاية الجنس البشري .
ووفقاً لعلماء النفس فإن الذكاء العقلي يمكن أن يتنبأ بنسبة 20% ببعض جوانب النجاح الأكاديمي والمهني , وتبقى نسبة 80% من التفسير ترجع لعوامل أخرى ومن هنا جاءت أهمية الذكاء الاصطناعي في منافسة العقل البشري في تدارك الأمور وفهمها وحل المشكلات المتعددة خصوصا مع تطور التكنولوجيا وتطور الحياة الاقتصادية والتحولات التي ترافقت واتساع أفق العولمة منذ تسعينات القرن العشرين , حيث نجم عن العولمة زيادة الاهتمام الدولي بالتقنية على حساب الاهتمام بعنصر العمل والمتمثل في الإنسان والذي أضحى أسيراً للآلة والخوارزميات .

ومع التطور العلمي الكبير أضحى الذكاء الاصطناعي يلعب دور في علاج مشكلات نفسية واجتماعية يعاني منها الإنسان كالاكتئاب , ويعني ذلك وجود قدرة لا محدودة للذكاء الاصطناعي في علاج الاكتئاب, وهذا الدور المنوط به يجعله علماً لا يمكن الاستغناء عنه مستقبلاً , وفي السياق تشير التقديرات الأممية والدولية أن ما حققه الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة يفوق المنجزات التي حققها علماء النفس خلال مائتين عام ماضية, وأن النجاح التي حققتها نماذج الذكاء الاصطناعي جعل منه نشاطاً اقتصادياً ومصدر من مصادر النمو وتحقيق الثراء , ويتضح ذلك جلياً في سعي الكثير من الشركات والمنشآت الاقتصادية إلى إنشاء أخصائي نفسي افتراضي, والاستغلال الأمثل للموارد من خلال الاستفادة من تطور الحوسبة وتقنية المعلومات في علاج المشكلات النفسية؛ كالاكتئاب والذي يعتبر الأكثر انتشاراً وشيوعاً, وتشير التجربة إلى حدوث نجاحات كثيرة للذكاء الاصطناعي في علاج الاكتئاب لذلك فإن الغرض الأساسي من الذكاء الاصطناعي هو الحصول على معارف جديدة يمكن من خلالها الاعتماد عليه كعلم مستقل بذاته يعمل معاً مع علم النفس على قاعدة من التكامل.

لقد تمكن مساهمات علماء الذكاء الاصطناعي في علاج المشكلات النفسية وذلك من خلال عدة طرق ومنها ابتكار أليسون دارسي لمحادثة تسمى " ووبوت" وهو تطبيق على الهاتف الذكي يتوسط المحادثة بين شخص مصاب بالاكتئاب مع طبيب معالج أو بوت محادثة أساسي, حيث يستخدم روبوت مبادئ العلاج الإدراكي السلوكي لانتقاء إجابات المريض في محادثاته مع الأشخاص بدلاً من إعطاء إجابات بسيطة مكررة مثل بوتات المحادثة الأخرى, وهذا التطبيق تسبب في التخفيف من أعراض الاكتئاب لعدد من المرضى.

وختاماً؛ رغم ما يمكن تحقيقه من نتائج إيجابية ومكاسب للمجتمعات من الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في التخفيف من المشكلات النفسية, يبقى هناك ضرورة لعدم الاعتماد المطلق علي الآلة على حساب الإنسان, خصوصاً في المصانع والمنشآت التي يتسبب وجود رجل آلي فيها إلى إحداث مشكلات اقتصادية وذات أبعاد اجتماعية ونفسية كالبطالة, إضافة إلى تهديد الجنس البشري كما ينجم عن تطبيق الذكاء الاصطناعي سيادة أشكالاً من العنصرية والتحيز وهذا الأمر يحتاج لإعادة نظر من قبل العلماء والمبرمجون, ورغم قدرتها على ابتكار مداخل لتقليل نسبة التحيز والعنصرية بزيادة البيانات إلا ان وجود عنصرية لا زالت ترتبط بالذكاء الاصطناعي, وهذا من مساوئ الاعتماد العالمي المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي كمرادف للعقل البشري.

لا يخفى على أحد وجود أهمية للبشرية لاستغلال كل الإمكانيات والتطور في المعلومات وتعميمها وتثمير منافع التكنولوجيا لخدمة سكان الكوكب, ورغم مخاطر الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بمسألة إحلال الآلة محل الإنسان والعنصرية والتحيز إلا أن الإيجابيات تبقى كثيرة وفي حال الاستثمار الإنساني بها فتشكل عامل بناء الاقتصاديات والمجتمعات ويحد بشكل كبير من مشكلات الإنسان ومنها الاكتئاب.

ويمكن القول أن الحالة المثلى هي الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تطوير التجارة والتعليم وزيادة الإنتاج, لكن بشكل لا يؤدي إلى إقصاء الإنسان , إضافة للإيمان المطلق بأن نقل المعارف والعلوم هي حق للبشرية جمعاء, وهذا يتطلب التقليل من مخاطر احتكار التكنولوجيا والابتكارات والاختراعات, والتي يتم حمايتها وبسياج قانوني فيما يُعرف بقوانين حماية الملكية.


أخبار مرتبطة