تاريخ النشر 28 مايو 2015     بواسطة ادارة الأخبار     المشاهدات 201

هل الوراثة هي نفسها التوارث؟

ماذا عن دور العين والسحر؟ دخل الجد مزمجرًا متوعدًا إلى العناية المركزة للمواليد رافعًا صوته قائلًا ” أين طبيب الوراثة الذي لا يفهم؟ كيف يقول إن الطفل لديه مرض وراثي ونحن أبًا عن جد ليس لدينا أي مرض وراثي؟!” تتكرر علينا هذه المواقف وما شابهها بشكل يومي خلال ممارستنا الطبية، إن كان ذلك في أجنحة
 التنويم مثل العناية المركزة أو حتى في العيادات الخارجية. هناك من ينكر وجود تفسير وراثي لبعض الأمراض، فمنهم من ينكرها إنكارًا تامًا كونها أمراض وراثية ويرجعه إما إلى أمور غيبية أو مجهولة مثل العين أو السحر أو الخوارق أو إلى تفسيرات علمية أخرى غير وراثية. لا شك أننا نؤمن بأن العين حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما ” العين حق، ولو كان شيء سابقَ القدر لسبقته العين، وإذا استُـغسلتم فاغسلوا” رواه مسلم، وكذلك السحر وقصة موسى وأحداثها ثابتة في القرآن لا ينكرها مسلم. ولكن ليس الخلاف هنا ولا أحد يخالف أو يجادل في هذه النصوص والحقائق، لكن الخلاف في أن “نفسّر” كل أمر مجهول لا يستوعبه إدراكنا وعلمنا القاصر على أن سببه هو العين أو السحر. للأسف لا يستطيع مدعٍ أن يثبت العين والسحر بشكل قاطع ولا يمكن لنا كأطباء أن ننفيها بشكل قاطع. هذه الادعاءات الغيبية مع أنها قد تكون فعلًا السبب لبعض الحالات لكن ليس من المنطق والعقل المعتدل أن نقبل ادعاء شخص ما لأمر غير ثابت بأنه بسبب العين أو السحر، وننكر في الوقت نفسه البراهين العلمية القاطعة والفحوصات الطبية الدامغة كالفحوصات الوراثية الدقيقة والتي تصل دقتها إلى 99.9% بأن هذا المرض أو ذاك مرض وراثي وأنه ثابت علميًا لدى المختصين وليس لديهم أدنى شك في أنه السبب بتقدير الله.
يقول شيخنا عبد الله المطلق في إحدى مقابلاته التلفزيونية معلقًا على انتشار التفسير لكثير من الأمور بالعين، يقول: “لو أن إحداهن انتهت عليها اسطوانة الغاز وهي في مطبخها لقالت هذه عين!” وكأن لسان حاله يقول إن السبب بديهي وهو انتهاء الغاز فعلًا، فالغاز ينفذ مع الاستعمال وليس لأمرٍ خارقٍ مجهولٍ!
لا أريد أن استرسل في إثبات أن الأمراض الوراثية هي أمر حقيقي وموجود ولن أحاول أن أفنّد ما ينكره البعض لأمور قطعية عند الأطباء والعلماء، ولكن أذكّر الجميع بحديث ولد الفزاري الذي رواه أبو هريرة “أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله وُلد لي غلامٌ أسودٌ، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمرٌ، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنّى ذلك؟ قال: لعلّه نزعه عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه.” رواه البخاري. والمراد بالعرق الأصل من النسب أي أن تلك الصفة “سواد البشرة” قد تكون موجودة فيمن سبق من أصوله وأجداده حتى وإن لم يذكرها المتأخرون من الآباء أو تُتناقل بينهم. بل إن هذا الحديث له شواهد علمية لما يعرف الآن علميًا في علم الوراثة بالوراثة المتنحية. أي أن الصفة متنحية (مختفية) تكون كامنة فيما سبق من الأجداد ثم تظهر في ظروف معينة يعلمها الأطباء. هذه الصفات قد تكون في الخِلقة في ملامح الوجه والجسم أو لون البشرة أو تكون مرتبطة بمرض معين في العظم أو الكلى أو القلب أو المخ أو غيرها، سواء كان ذلك المرض مرضًا بسيطًا أو شديدًا، ولا تظهر هذه الأمراض إلا إذا تهيأت لها ظروف معينة، هذه الظروف الطبية هي أن يكون كلا الأبوين يحملان نفس الصفة المتنحية فيصاب بعض أطفالهم بها، بينما الأبوين لا تظهر عليهم علامات المرض لأنها “متنحية”.
لنرجع إلى قصة ذلك الجد الذي أرعد وأزبد، وإلى مرض حفيده الذي أجبره على البقاء في العناية المركزة لبضعة أسابيع وهو تحت أجهزة التنفس الاصطناعية، ولنحاول أن ننظر إلى التفسيرات العلمية الثابتة لمثل هذه الأمور. طبعًا لا ننسى مقولة الرجل -وهو صادق في مقولته -بأنه لا يوجد أبدًا في عائلته أي مرض وراثي حسب ما يتذكر أو ذكره له آباؤه وأجداده، لكن لا يعني في نفس الوقت أن الأطباء غير صادقين بأن المرض فعلًا مرض وراثي!
هناك ثلاثة أمور يجب التنبّه إليها عندما يذكر الأطباء أن مرضًا ما هو مرضٌ وراثيٌّ ولا يوجد أحد آخر مصاب في الأسرة:
1- قد يكون المرض مرض وراثي أي خلل في المادة الوراثية (والتي تعرف بالحمض النووي) وليس مرض يتوارث. يتوارث أي أنه ينتقل من جيل إلى جيل آخر، أي أنها طفرة جديدة، أي خلل جديد في المادة الوراثية ولم تكن موجودة في الآباء ولا الأجداد لا القريبين ولا البعيدين. هذا حدث طارئ ظهر على هذه الطفل فقط. وهو أول طفل في الأسرة يصاب به وقد لا يتكرر في الأسرة لكونها طفرة شاذة جديدة. الطفرة الجديدة قد تكون نتيجة لخلل على مستوى ما يعرف بالجينات (المورثات) أو على مستوى الكروموسومات (الصبغيات). وأي شخص يصاب بخلل (بطفرة) في الجينات أو الكروموسومات يقال إن مرضه “مرض وراثي” أي أنه ناتج عن خلل في المادة الوراثية ولا يقصد بها بالضرورة أنه مرض متوارث، ولا يقصد به أيضًا أنه كان موروثًا من أحد الآباء أو كليهما. هذا الأمر يلتبس على كثير من الناس وخاصة في حالة ما يعرف بـ “متلازمة داون “، فهناك من يرفض مثلًا أن يُزوّج أو يتزوّج من أسرة لديها طفل متلازمة داون مدعيًا أن متلازمة داون مرض وراثي وأن من يتزوج من هذه الأسرة قد ينجب أطفالًا لديهم نفس الحالة وهذا الادعاء مصدره الجهل والكلام من غير علم. فمتلازمة داون خلل في المادة الوراثية نتيجة خلل في انقسام البويضة أو الحيوان المنوي وليست أمرًا متوارثًا في أغلب الحالات (95% من الحالات) ومن أراد المزيد من التوضيح عليه الرجوع إلى المختصين ولا يسمع لعامة الناس وما يتناقلونه من ظن يتعارض مع الحقائق العلمية. وللمعلومية، متلازمة داون تحدث لواحد من كل 600 حالة ولادة أي أنه من الشائع أن تجد في كل أسرة كبيرة طفل أو أكثر من الأقارب لديه متلازمة داون.
2- قصة ولد الفزاري. حيث أن الصفة موجودة لكنها متخفية ولا تظهر إلا إذا انتقلت نفس الصفة إلى الطفل من الأبوين معًا. ولا تظهر هذه الصفة مطلقًا لو انتقلت من أحد الأبوين فقط. هذه الصفات المتنحية هي التفسير العلمي لكثير من الأمراض التي تظهر في زواج الأقارب. فالأبوين يكونان “ظاهريًا” سليمين وأيضًا آباؤهم وأجدادهم، لكن كلٌّ منهم يحمل صفة لمرض معين قد يكون في العظم أو الكلى أو أي عضو من أعضاء الجسم وعندما يكون كلا الأبوين يحمل هذه الصفة فإن “بعض” أطفالهم قد تصلهم هذه الصفة من الأبوين في آنٍ واحدٍ، فيظهر عليهم المرض. طبعًا في هذا المقام يكثر لوم الأبوين لبعضهم البعض “ويدّعي” الأب أو الأم أن المرض من هذا الطرف أو ذاك وهذا طبعًا ادعاء خاطئ لأن كلا الأبوين نقل المرض إلى الطفل وذلك بقدر الله ومشيئته.
3- قد يكون المرض فعلا وراثي وهو موجود في أحد الأبوين لكن ذلك الأب أو الأم لم يظهر عليهما أعراض أو كانت أعراضًا خفيفة أو قد يتأخر ظهورها مع العمر. وهذا النوع من الوراثة يسمى الوراثة السائدة حيث يكفي انتقال نسخة واحدة غير سليمة من أحد الأبوين للمورّث المسبّب للمرض الوراثي لتظهر بعض أو كل أعراض المرض. وهذا النوع يتم التثبّت منه عن طريق الفحص الوراثي فتُفحص المادة الوراثية للطفل المصاب وأيضًا يفحص الأبوين ويتم إثبات إصابة الطفل أو أحد الأبوين عن طريق ذلك الفحص الذي ذكرت لكم أنه دقيق للغاية.
أذكر قصة أخرى لأبوين شاء الله أن أتابع حالة ابنتهما المصابة بمرض من أمراض التمثيل الغذائي (وهي بالغالب من الأمراض الوراثية المتنحية التي ذكرناها في الفقرة الثانية) وكانت ابنتهما ذات الأربع أشهر تصارع الموت نتيجة لضعف عضلة القلب لدرجة تستحيل معها الحياة وللأسف هذا المرض لم يكتشف العلماء له علاجًا شافيًا في الطب الحديث. هذان الأب والأم المكلومان توفي لهما 4 أطفال قبل هذه الطفلة بنفس الأعراض وتم تشخيص حالتها بالفحوصات الوراثية القطعية التي أظهرت أن المرض مرض متنحٍ وأن الأب والأم ناقلين للمرض حتى وإن لم تظهر عليهما أية أعراض. وأيضًا هذا الفحص أظهر أن هناك عطب في الجين المسبّب للمرض وأنه انتقل للطفلة من أبويها. وطبعًا وكما هي العادة لم يكن هناك أحد من الآباء أو الأجداد أو الأقارب في هذه الأسرة مصاب بالمرض. جميع الأطباء على مستوى العالم يجزمون أن هذا المرض مرضٌ وراثيٌّ متنحٍّ ولا أحد يشك ولا حتى أقل من 1% بغير ذلك. لكن وبالرغم من هذه الأدلة الدامغة إلّا أن الأب صارحني وهو متحيّر ولكنّه شبه مقتنع أن ما عند أولاده سببه “عين”، وذكر قصة حدثت له مع أحد أقاربه لكي يعضّد به قوله.
هناك ثلاث خواطر حول تداعيات هذا الأمر وتفسير كل شيء حتى ولو ثبت طبيًا بأن أسبابه عين أو سحر:
1- لو فرضنا جدلًا (وطبعًا لا نعتقد ذلك) أن مرض ابنة هذه الرجل وجميع أطفاله الأربعة الآخرين هو بسبب عين، ما المفروض أن تقوم به هذه الأسرة؟ في نظري المتواضع اعتقد أن عليها أن تعمل بالأسباب وتتوكل على الله. والأسباب هي أن يتم استعمال الأمور الشرعية التي ثبتت في السنة والقرآن ويبتعد عن المشعوذين والدجالين، هذا من جهة ومن جهة أخرى يقدم على طريقة طبية متوفرة ليتفادى إصابة أطفاله مرة أخرى وذلك بإجراء ما يعرف بالفحص الوراثي قبل الغرز. وهي بالمختصر إجراء فحص وراثي بعد حمل صناعي أو ما يعرف بأطفال الأنابيب يتم خلاله اختيار البويضة الملقحة السليمة وتغرز في الرحم وبإذن الله يكون الجنين سليمًا.
2- إن تفشّي قضية العين في كثير من الأمراض التي ثبت أنها أمراض إمّا وراثية أو أمراض غير معروف سببها الطبي يؤدي إلى انشقاق خطير في الأسر وفي صلة الرحم بالتحديد. فكم شاهدنا وسمعنا من ادعاءات غير منطقية لأشخاص بعينهم من الأقارب أدّت إلى قطيعة في الرحم بل حتى الشجار والتخاصم ووصل الأمر إلى الاعتداء. إنّ رفع الصوت بمقولة “العين حق” وهي كذلك، أمام كل من يحاول أن يقول إن مرضًا ما له أسباب طبية وراثية ويصرّ على هذا الأمر قد يفضي إلى محظور شرعي خطير ألا وهو قطيعة الرحم وهذه من الذنوب الخطيرة التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأحاديث التي تضاهي عدد الأحاديث التي تتحدث عن العين، ناهيك عمّا ذكر في القرآن عن صلة الرحم وقطيعة الأرحام.
3- النقطة الأخيرة حول هذه الأمر هي أن استعمال العين كشماعة لكل مرض مجهول وغريب قد يكون له تداعيات على المريض وأيضًا الذرية. فلو كان الادعاء خاطئًا فإنه يؤخر الذهاب إلى المستشفيات أو حتى تناول الأدوية أو إيقافها أو عدم الانتظام عليها وعدم الذهاب إلى المختصين للتخطيط للحمل القادم لتفادي الإصابة إذا كانت موجودة.
كنت بجوار أحد الأصحاب في إحدى الاجتماعات العائلية وهمس في أذني وهو كله فخر أنه نصح أخًا له كان ينوي الزواج من إحدى الأسر البعيدة عنهم ولكنه اكتشف أن أحد أطفالهم مصاب بمرض من أمراض الجلد الوراثي فقال له ابتعد عنهم لكيلا تصاب ذريتك وناصحه قائلًا: لماذا تُضيّق على نفسك والنساء كُثر! ابحث عن أي أسرة ليس لديها مرض وتزوج منهم. قلت لصاحبي: اعلم يا أخي الفاضل أن “جميع الناس” وكررتها “جميع الناس” يحملون أمراضًا وراثيةً وأنت وأخوك لستما استثناءً. قال: نعم؟ قلت: نعم، جميع الناس يحملون صفاتٍ لأمراضٍ وراثيةٍ لكنها متخفية (أي متنحية) بل إن الشخص الواحد لديه من 6 إلى 12 مرضًا، وحديثًا يعتقد أن هذا العدد عددًا متدنيًا وقد يصل إلى أضعاف هذا الرقم! فلذلك لو هربت من مرض الجلد الوراثي فسوف تقع في مرضٍ آخر. وأنت الذي تعتقد أنك “سليم” وليس في أسرتك “أي مرض وراثي” قد يظهر فيكم مرضٌ آخر. طبعًا ليست كل الأمراض الوراثية أمراضًا متنحية بل هناك أمراض سائدة وأخرى مرتبطة بالجنس لكن حديثنا هو اعتقاد بعض الناس أن هناك أسر يجب تجنب الزواج منها ولا يعلم طبيًا أن الحل في تفادي تكرار الإصابة في تلك الأسرة التي فيها المرض الوراثي الجلدي يتمثل في زواجهم من غير الأقارب وقد يكون الزواج من أقاربهم أكبر خطأ يرتكبونه وقد يُعرض ذريتهم للإصابة.
القصص كثيرة وتتكرر كل يوم بأشكال مختلفة وروايات متعددة، لكنها ترجع إلى المستوى العلمي والثقافي للمجتمع والشخص، فكلما تسلّح الشخص بالعلم والثقافة والعقل والوضوح في التفكير وقبلها بالإيمان الصحيح كلما استطاع أن يضع الأمور في موازينها الصحيحة ولا يلقي الكلام على عواهنه ويخرج الكلمات كما يحلو له كقول ذلك الجد أين طبيب الوراثة الذي لا يفهم! وخلاصة القول: ليس كل خلل في المادة الوراثية تتوارثه الأجيال، وإن عدم ظهور مرض وراثي في الأجداد لا ينفي أن يكون المرض مرضًا وراثيًا فهناك الطفرات الجديدة وهناك ما يعرف بالأمراض المتنحية، والله أعلم.
د. عبد الرحمن فايز السويد
استشاري الوراثة الإكلينيكية وطب الأطفال
مدينة الملك عبد العزيز الطبية بالحرس الوطني بالرياض


أخبار مرتبطة